الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الزمخشري: سورة الحاقة مكية، وآياتها 52، نزلت بعد الملك.بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ.[سورة الحاقة: الآيات 1- 8] {الْحاقّةُ (1) ما الْحاقّةُ (2) وما أدْراك ما الْحاقّةُ (3) كذّبتْ ثمُودُ وعادٌ بِالْقارِعةِ (4) فأمّا ثمُودُ فأُهْلِكُوا بِالطّاغِيةِ (5) وأمّا عادٌ فأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صرْصرٍ عاتِيةٍ (6) سخّرها عليْهِمْ سبْع ليالٍ وثمانِية أيّامٍ حُسُوما فترى الْقوْم فِيها صرْعى كأنّهُمْ أعْجازُ نخْلٍ خاوِيةٍ (7) فهلْ ترى لهُمْ مِنْ باقِيةٍ (8)}{الْحاقّةُ} الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء، التي هي آتية لا ريب فيها. أو التي فيها حواق الأمور من الحساب والثواب والعقاب. أو التي تحق فيها الأمور، أى: تعرف على الحقيقة، من قولك لا أحق هذا، أى: لا أعرف حقيقته. جعل الفعل لها وهو لأهلها وارتفاعها على الابتداء وخبرها {ما الْحاقّةُ} والأصل: الحاقة ما هي، أى أىّ شيء هي تفخيما لشأنها وتعظيما لهو لها، فوضع الظاهر موضع المضمر، لأنه أهول لها {وما أدْراك} وأىّ شيء أعلمك ما الحاقة، يعنى: أنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها، على أنه من العظم والشدة بحيث لا يبلغه دراية أحد ولا وهمه، وكيفما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك، و{ما} في موضع الرفع على الابتداء. و{أدْراك} معلق عنه لتضمنه معنى الاستفهام. {بِالْقارِعةِ} التي تقرع الناس بالأفزاع والأهوال، والسماء بالانشقاق والانفطار، والأرض والجبال بالدك والنسف، والنجوم بالطمس والانكدار. ووضعت موضع الضمير لتدل على معنى القرع. في {الحاقة}: زيادة في وصف شدتها، ولما ذكرها وفخمها أتبع ذكر ذلك ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب، تذكيرا لأهل مكة وتخويفا لهم من عاقبة تكذيبهم بِالطّاغِيةِ بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة. واختلف فيها،فقيل: الرجفة. وعن ابن عباس: الصاعقة. وعن قتادة: بعث اللّه عليهم صيحة فأهمدتهم. وقيل: الطاغية مصدر كالعافية، أى: بطغيانهم، وليس بذاك لعدم الطباق بينها وبين قوله {بِرِيحٍ صرْصرٍ} والصرصر: الشديدة الصوت لها صرصرة. وقيل: الباردة من الصر، كأنها التي كرر فيها البرد وكثر: فهي تحرق لشدة بردها عاتِيةٍ شديدة العصف والعتوّ استعارة. أو عتت على عاد، فما قدروا على ردّها بحيلة، من استتار ببناء، أو لياذ بجبل، أو اختفاء في حفرة، فإنها كانت تنزعهم من مكامنهم وتهلكهم. وقيل: عتت على خزانها، فخرجت بلا كيل ولا وزن: وروى عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «ما أرسل اللّه سفينة من ريح إلا بمكيال ولا قطرة من مطر إلا بمكيال إلا يوم عاد ويوم نوح، فإنّ الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه السبيل، ثم قرأ {إِنّا لمّا طغى الْماءُ حملْناكُمْ فِي الْجارِيةِ} وإن الريح يوم عاد عتت على الخزان فلم يكن لهم عليها سبيل ثم قرأ {بِرِيحٍ صرْصرٍ عاتِيةٍ}»ولعلها عبارة عن الشدة والإفراط فيها. الحسوم: لا يخلو من أن يكون جمع حاسم كشهود وقعود. أو مصدرا كالشكور والكفور، فإن كان جمعا فمعنى قوله {حُسُوما} نحسات حسمت كل خير واستأصلت كل بركة.أو متتابعة هبوب الرياح: ما خفتت ساعة حتى أتت عليهم تمثيلا لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء، كرة بعد أخرى حتى ينحسم. وإن كان مصدرا: فإما أن ينتصب بفعله مضمرا، أى: تحسم حسوما، بمعنى تستأصل استئصالا. أو يكون صفة كقولك: ذات حسوم.أو يكون مفعولا له، أى: سخرها عليهم للاستئصال. وقال عبد العزيز ابن زرارة الكلابي:وقرأ السدى: {حسوما}، بالفتح حالا من الريح، أى: سخرها عليهم مستأصلة. وقيل: هي أيام العجوز، وذلك أن عجوزا من عاد توارت في سرب، فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها.وقيل: هي أيام العجز، وهي آخر الشتاء وأسماؤها: الصن والصنبر، والوبر. والآمر، والمؤتمر، والمعلل، ومطفئ الجمر. وقيل: مكفئ الظعن ومعنى {سخّرها عليْهِمْ} سلطها عليهم كما شاء فِيها في مهابها. أو في الليالي والأيام. وقرئ: {أعجاز نخيل} {مِنْ باقِيةٍ} من بقية أو من نفس باقية. أو من بقاء، كالطاغية: بمعنى الطغيان. .[سورة الحاقة: الآيات 9- 10] {وجاء فِرْعوْنُ ومنْ قبْلهُ والْمُؤْتفِكاتُ بِالْخاطِئةِ (9) فعصوْا رسُول ربِّهِمْ فأخذهُمْ أخْذة رابِية (10)}.{ومنْ قبْلهُ} يريد: ومن عنده من تباعه. وقرئ: {ومن قبله}، أى: ومن تقدمه. وتعضد الأولى قراءة عبد اللّه وأبى: {ومن معه}. وقراءة أبى موسى: {ومن تلقاءه} {والْمُؤْتفِكاتُ} قرى قوم لوط {بِالْخاطِئةِ} بالخطإ، أو بالفعلة، أو الأفعال ذات الخطإ العظيم {رابِية} شديدة زائدة في الشدة، كما زادت قبائحهم في القبح. يقال: ربا الشيء يربو: إذا زاد {لِيرْبُوا فِي أمْوالِ النّاسِ}..[سورة الحاقة: الآيات 11- 12] {إِنّا لمّا طغى الْماءُ حملْناكُمْ فِي الْجارِيةِ (11) لِنجْعلها لكُمْ تذْكِرة وتعِيها أُذُنٌ واعِيةٌ (12)}.{حملْناكُمْ} حملنا آباءكم {فِي الْجارِيةِ} في سفينة، لأنهم إذا كانوا من نسل المحمولين الناجين، كان حمل آبائهم منة عليهم، وكأنهم هم المحمولون، لأن نجاتهم سبب ولادتهم {لِنجْعلها} الضمير للفعلة: وهي نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة {تذْكِرة} عظة وعبرة {أُذُنٌ واعِيةٌ} من شأنها أن تعى وتحفظ ما سمعت به ولا تضيعه بترك العمل، وكل ما حفظته في نفسك فقد وعيته وما حفظته في غير نفسك فقد أوعيته كقولك: وعيت الشيء في الظرف. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلىّ رضى اللّه عنه عند نزول هذه الآية «سألت اللّه أن يجعلها أذنك يا علىّ» قال علىّ رضى اللّه عنه: فما نسيت شيئا بعد وما كان لي أن أنسى. فإن قلت: لم قيل: {أذن واعية}، على التوحيد والتنكير؟ قلت: للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن اللّه فهي السواد الأعظم عند اللّه، وأن ما سواها لا يبالى بهم بالة وإن ملئوا ما بين الخافقين. وقرئ: {وتعيها} بسكون العين للتخفيف: شبه تعى بكبد..[سورة الحاقة: الآيات 13- 18] {فإِذا نُفِخ فِي الصُّورِ نفْخةٌ واحِدةٌ (13) وحُمِلتِ الْأرْضُ والْجِبالُ فدُكّتا دكّة واحِدة (14) فيوْمئِذٍ وقعتِ الْواقِعةُ (15) وانْشقّتِ السّماءُ فهِي يوْمئِذٍ واهِيةٌ (16) والْملكُ على أرْجائِها ويحْمِلُ عرْش ربِّك فوْقهُمْ يوْمئِذٍ ثمانِيةٌ (17) يوْمئِذٍ تُعْرضُون لا تخْفى مِنْكُمْ خافِيةٌ (18)}أسند الفعل إلى المصدر، وحسن تذكيره للفصل. وقرأ أبو السمال {نفخة واحدة} بالنصب مسندا للفعل إلى الجار والمجرور. فإن قلت: هما نفختان، فلم قيل: واحدة؟ قلت معناه أنها لا تثنى في وقتها. فإن قلت: فأى النفختين هي؟ قلت الأولى لأن عندها فساد العالم، وهكذا الرواية عن ابن عباس. وقد روى عنه أنها الثانية. فإن قلت: أما قال بعد {يوْمئِذٍ تُعْرضُون} والعرض إنما هو عند النفخة الثانية؟ قلت: جعل اليوم اسما للحين الواسع الذي تقع فيه النفختان والصعقة والنشور والوقوف والحساب، فلذلك قيل {يوْمئِذٍ تُعْرضُون} كما تقول: جئته عام كذا، وإنما كان مجيئك في وقت واحد من أوقاته {وحُمِلتِ} ورفعت من جهاتها بريح بلغت من قوّة عصفها أنها تحمل الأرض والجبال. أو بخلق من الملائكة. أو بقدرة اللّه من غير سبب. وقرئ: {وحملت}، بحذف المحمل وهو أحد الثلاثة.{فدُكّتا} فدكت الجملتان: جملة الأرضين وجملة الجبال، فضرب بعضها ببعض حتى تندقّ وترجع كثيبا مهيلا وهباء منبثا. والدك أبلغ من الدق. وقيل: فبسطتا بسطة واحدة، فصارتا أرضا {لا ترى فيها عوجا ولا أمتا}، من قولك: اندكّ السنام إذا انفرش. وبعير أدك وناقة دكاء. ومنه: الدكان {فيوْمئِذٍ وقعتِ الْواقِعةُ} فحينئذ نزلت النازلة وهي القيامة {واهِيةٌ} مسترخية ساقطة القوّة جدّا بعد ما كانت محكمة مستمسكة. يريد: والخلق الذي يقال له الملك، وردّ إليه الضمير مجموعا في قوله {فوْقهُمْ} على المعنى.فإن قلت: ما الفرق بين قوله {والْملكُ}، وبين أن يقال والملائكة؟قلت: الملك أعمّ من الملائكة، ألا ترى أن قولك: ما من ملك إلا وهو شاهد، أعم من قولك: ما من ملائكة على أرْجائِها على جوانبها: الواحد رجا مقصور، يعنى: أنها تنشق، وهي مسكن الملائكة، فينضوون إلى أطرافها وما حولها من حافاتها ثمانِيةٌ أى: ثمانية منهم. وعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «هم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أيدهم اللّه بأربعة آخرين فيكونون ثمانية» وروى: ثمانية أملاك: أرجلهم في تخوم الأرض السابعة، والعرش فوق رؤسهم، وهم مطرقون مسبحون. وقيل: بعضهم على صورة الإنسان، وبعضهم على صورة الأسد، وبعضهم على صورة الثور، وبعضهم على صورة النسر. وروى: ثمانية أملاك في خلق الأوعال، ما بين أظلافها إلى ركبها: مسيرة سبعين عاما. وعن شهر بن حوشب: أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، وأربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك.وعن الحسن: اللّه أعلم كم هم، أثمانية أم ثمانية آلاف؟ وعن الضحاك: ثمانية صفوف لا يعلم عددهم إلا اللّه. ويجوز أن تكون الثمانية من الروح، أو من خلق آخر، فهو القادر على كل خلق، سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون. العرض: عبارة عن المحاسبة والمساءلة.شبه ذلك بعرض السلطان العسكر لتعرف أحواله. وروى أنّ في يوم القيامة ثلاثة عرضات، فأما عرضتان فاعتذار واحتجاج وتوبيخ، وأما الثالثة ففيها تنشر الكتب فيأخذ الفائز كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله {خافِيةٌ} سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا بستر اللّه عليكم..[سورة الحاقة: الآيات 19- 24] {فأمّا منْ أُوتِي كِتابهُ بِيمِينِهِ فيقول هاؤُمُ اقْرؤُا كِتابِيهْ (19) إِنِّي ظننْتُ أنِّي مُلاقٍ حِسابِيهْ (20) فهُو فِي عِيشةٍ راضِيةٍ (21) فِي جنّةٍ عالِيةٍ (22) قُطُوفُها دانِيةٌ (23) كُلُوا واشْربُوا هنِيئا بِما أسْلفْتُمْ فِي الْأيّامِ الْخالِيةِ (24)}{فأمّا} تفصيل للعرض. ها: صوت يصوت به فيفهم منه معنى (خذ) كأف وحس، وما أشبه ذلك. و{كِتابِيهْ} منصوب بـ: {هاؤم} عند الكوفيين، وعند البصريين بـ: {اقرءوا}، لأنه أقرب العاملين. وأصله: هاؤم كتابي اقرؤا كتابي، فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه.ونظيره {آتُونِي أُفْرِغْ عليْهِ قِطْرا} قالوا: ولو كان العامل الأوّل لقيل: اقرؤه وأفرغه. والهاء للسكت في {كِتابِيهْ}، وكذلك في {حِسابِيهْ} و{مالِيهْ} و{سُلْطانِيهْ} وحق هذه الهاءات أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل، وقد استحب إيثار الوقف إيثارا لثباتها لثباتها في المصحف.وقيل: لا بأس بالوصل والإسقاط. وقرأ ابن محيصن بإسكان الياء بغير هاء. وقرأ جماعة بإثبات الهاء في الوصل والوقف جميعا لاتباع المصحف {ظننْتُ} علمت. وإنما أجرى الظن مجرى العلم، لأن الظن الغالب يقام مقام العلم في العادات والأحكام. ويقال: أظن ظنا كاليقين أنّ الأمر كيت وكيت راضِيةٍ منسوبة إلى الرضا، كالدارع والنابل.والنسبة نسبتان: نسبة بالحرف، ونسبة بالصيغة. أو جعل الفعل لها مجازا وهو لصاحبها عالِيةٍ مرتفعة المكان في السماء. أو رفيعة الدرجات. أو رفيعة المبانى والقصور والأشجار {دانِيةٌ} ينالها القاعد والنائم. يقال لهم {كُلُوا واشْربُوا هنِيئا} أكلا وشربا هنيئا. أو هنيتم هنيئا على المصدر {بِما أسْلفْتُمْ} بما قدمتم من الأعمال الصالحة {فِي الْأيّامِ الْخالِيةِ} الماضية من أيام الدنيا.وعن مجاهد: أيام الصيام، أى: كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه اللّه.وروى. يقول اللّه عز وجل: يا أوليائى طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة، وغارت أعينكم، وخمصت بطونكم، فكونوا اليوم في نعيمكم، وكلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية.
|